فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

وفي إماتته هذه المدّة ثم إحيائه بعدها أعظم آية، وأمره كلّه آية للناس غابر الدهر، ولا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وانظر إِلَى العظام} فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره، فإن اللام فيه بدل الكناية، وقال آخرون أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه، قالوا: إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه، وكانت بقية بدنه عظامًا نخرة، فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض، وكان يرى حماره واقفًا كما ربطه حين كان حيًا لم يأكل ولم يشرب مائة عام، وتقدير الكلام على هذا الوجه: وانظر إلى عظامك، وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد، وهو عندي ضعيف لوجوه:
أحدها: أن قوله: {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائمًا في بعض يوم، أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة، وعظام بدنة رميمة نخرة، فلا يليق به ذلك القول وثانيها: أنه تعالى حكي عنه أن خاطبه وأجاب، فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله، فإذا كانت الإماتة راجعة إلي كله، فالمجيب أيضًا الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص.
وثالثها: أن قوله: {فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها. اهـ.
وقال الفخر:
أما قوله: {كَيْفَ ننشرها} فالمراد يحييها، يقال: أنشر الله الميت ونشره، قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى: {قَالَ مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا} [يس: 78، 79] وقرئ: {ننشرها} بفتح النون وضم الشين، قال الفرّاء: كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي، وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف، فهو كأنه مطوي ما دام ميتًا، فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي، وقرأ حمزة والكسائي {كَيْفَ نُنشِزُهَا} بالزاي المنقوطة من فوق، والمعنى نرفع بعضها إلى بعض، وانشاز الشيء رفعه، يقال أنشزته فنشز، أي رفعته فارتفع، ويقال لما ارتفع من الأرض نشز، ومنه نشوز المرأة، وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج، ومعنى الآية على هذه القراءة: كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض، وروي عن النخعي أنه كان يقرأ: {ننشِزُهَا} بفتح النون وضم الشين والزاي ووجهه ما قال الأخفش أنه يقال: نشزته وأنشزته أي رفعته، والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام، ثم بسط اللحم عليها، ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها، ورفع بعضه إلى جنب البعض، فيكون كل القراءات داخلًا في ذلك. اهـ.

.قال القرطبي:

القراءة بالراء بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، والزاي أوْلى بذلك المعنى، إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء.
فالموصوف بالإحياء هو الرجل دون العظام على انفرادها، ولا يقال: هذا عظم حيّ، وإنما المعنى فانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء. اهـ.

.قال ابن عطية:

وتعلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز الارتفاع قليلًا، فكأنه وقف على نبات العظام الرفاة، وخرج ما يوجد منها عند الاختراع. اهـ.

.قال أبو حيان:

الكسوة حقيقة هي ما وارى الجسد من الثياب، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى به العظم.
كقوله: {فكسونا العظام لحمًا} وهي استعارة في غاية الحسن، إذ هي استعارة عين لعين، وقد جاءت الاستعارة في المعنى للجرم.
قال النابغة:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ** حتى اكتسيت من الإسلام سربالًا

وروي أنه كان يشاهد اللحم والعصب والعروق كيف تلئم وتتواصل، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ: أن قول الله له كان بعد تمام بعثه، لا أن القول كان بعد إحياء بعضه.
والتعقيب بالفاء في قوله: فانظر إلى آخره، يدل على أن العظام لا يراد بها عظام نفسه، وتقدّم ذكر شيء من هذا، إلاَّ إن كان وضع: ننشرها، مكان: أنشرتها، و: نكسوها، مكان: كسوتها، فيحتمل.
وتكرر الأمر بالنظر إلى الطعام والشراب في الثلاث الخوارق، ولم ينسق نسق المفردات، لأن كل واحد منها خارق عظيم، ومعجز بالغ، وبدأ أولًا بالنظر إلى العظام والشراب حيث لم يتغيرا على طول هذه المدة، لأن ذلك أبلغ، إذ هما من الأشياء التي يتسارع إليها الفساد، إذ ما قام به الحياة وهو الحمار يمكن بقاؤه الزمان الطويل، ويمكن أن يحتش بنفسه ويأكل ويرد المياه.
كما قال صلى الله عليه وسلم في ضالة الإبل: «معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها» ولما أمر بالنظر إلى الطعام والشراب، وبالنظر إلى الحمار، وهذه الأشياء هي التي كانت صحبته، وقال تعالى: {ولنجعلك آية للناس} أي فعلنا ذلك: ولما كان قوله: {وانظر إلى حمارك} كالمجمل، بين له جهة النظر بالنسبة إلى الحمار، فجاء النظر الثالث توضيحًا للنظر الثاني، من أي جهة ينظر إلى الحمار، وهي جهة إحيائه وارتفاع عظامه شيئًا فشيئًا عند التركيب وكسوتها اللحم، فليس نظرًا مستقلًا، بل هو من تمام النظر الثاني، فلذلك حسن الفصل بين النظرين بقوله: {ولنجعلك آية للناس}.
وليس في الكلام تقديم وتأخير كما زعم بعضهم، وأن الأنظار منسوق بعضها على بعض، وأن قوله: {ولنجعلك آية للناس} الخ وهو مقدّم في اللفظ، مؤخر في الرتبة. اهـ.

.قال الفخر:

هذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} والمعنى فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه وقال صاحب الكشاف: فاعل {تَبَيَّنَ لَهُ} مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وهذا عندي فيه تعسف، بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} وتأويله: أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال وقرأ حمزة والكسائي {قَالَ أَعْلَمُ} على لفظ الأمر وفيه وجهان أحدهما: أنه عند التبين أمر نفسه بذلك، قال الأعشى:
ودع أمامة إن الركب قد رحلوا

والثاني: أن الله تعالى قال: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش: قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ويؤكده قوله في قصة إبراهيم {ربي أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: 260] ثم قال في آخرها {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] قال القاضي: والقراءة الأولى وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به، وهاهنا العلم حاصل بدليل قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز، أما الإخبار عن أنه حصل كان جائزًا. اهـ.

.قال القرطبي:

وقد رُوي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده.
قال قَتادة: إنه جعل ينظر كيف يوصل بعض عظامه إلى بعض؛ لأن أوّل ما خلق الله منه رأسه وقيل له: انظر، فقال عند ذلك: أعلم بقطع الألف، أي أعلم هذا.
وقال الطبري: المعنى في قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي لما اتضح له عيانًا ما كان مستنكرًا في قدرة الله عنده قبل عيانه قال: أعلم.
قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسّر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبلُ ينكره كما زعم الطبريّ، بل هو قول بعثه الاعتبار؛ كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئًا غريبًا من قدرة الله تعالى: لا إله إلا الله ونحو هذا.
وقال أبو عليّ: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته.
قلت: وقد ذكرنا هذا المعنى عن قتادة، وكذلك قال مَكّيّ رحمه الله، قال مَكّيّ: إنه أخبر عن نفسه عند ما عاين من قدرة الله تعالى في إحيائه الموتى، فتيقّن ذلك بالمشاهدة، فأقرّ أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، أي أعلم أنا هذا الضرب من العلم الذي لم أكن أعلمه على معاينة؛ وهذا على قراءة من قرأ: {أَعْلَمُ} بقطع الألف وهم الأكثر من القراء.
وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، ويحتمل وجهين: أحدهما قال له الملك: اعلم، والآخر هو أن ينزِّل نفسه منزلة المخاطَب الأجنبي المنفصل؛ فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه: اعلمي يا نفس هذا العلم اليقين الذي لم تكوني تعلمين معاينة؛ وأنشد أبو عليّ في مثل هذا المعنى:
ودّع هريرةَ إن الرّكب مُرتحِلُ ** ألم تغْتَمِضْ عيناك ليلةَ أَرْمَدا

قال ابن عطية: وتأنّس أبو عليّ في هذا المعنى بقول الشاعر:
تذَكّر من أنَّى ومن أين شُرْبُه ** يُؤامِرُ نَفْسَيْه كذِي الهَجْمَة الأَبِل

قال مَكّيّ: ويبعد أن يكون ذلك أمرًا من الله جلّ ذكره له بالعلم؛ لأنه قد أظهر إليه قدرته، وأراه أمرًا أيقن صحته وأقرّ بالقدرة فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك، بل هو يأمر نفسه بذلك وهو جائز حسَن.
وفي حرف عبد الله ما يدل على أنه أمرٌ من الله تعالى له بالعلم على معنى الزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت، وذلك أن في حرفه: قيل اعلم.
وأيضًا فإنه موافق لما قبله من الأمر في قوله: {انْظُرْ إلى طَعَامِكَ} و{انْظُرْ إلى حمارك} و{وَانْظُرْ إلى الْعِظَامِ} فكذلك و{واعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ} وقد كان ابن عباس يقرؤها {قيل أعلم} ويقول أهو خير أم إبراهيم؟ إذ قيل له: {واعلم أن الله عزيز حكيم}. فهذا يبيّن أنه من قول الله سبحانه له لما عاين من الإحياء. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: فإن قيل: ما الفائدة في إماتة الله له مائة عام، مع أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بعد بعض يوم حاصل؟

قلنا: لأن الإحياء بعد تراخي المدة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدة، وأيضًا فلأن بعد تراخي المدة ما يشاهد منه، ويشاهد هو من غيره أعجب. اهـ.

.أسئلة وأجوبة للفخر:

قال الفخر:
أما قوله تعالى: {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ففيه سؤالات:
السؤال الأول: لم ذكر هذا الترديد؟.
الجواب: أن الميت طالت مدة موته أو قصرت فالحال واحدة بالنسبة إليه فأجاب بأقل ما يمكن أن يكون ميتًا لأنه اليقين، وفي التفسير أن إماتته كانت في أول النهار، فقال: {يَوْمًا} ثم لما نظر إلى ضوء الشمس باقيًا على رؤوس الجدران فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}.
السؤال الثاني: أنه لما كان اللبث مائة عام، ثم قال: {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أليس هذا يكون كذبًا؟.
والجواب: أنه قال ذلك على حسب الظن، ولا يكون مؤاخذًا بهذا الكذب، ونظيره أنه تعالى حكى عن أصحاب الكهف أنهم قالوا {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] على ما توهموه ووقع عندهم، وأيضًا قال أخوة يوسف عليه السلام: {ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] وإنما قالوا: ذلك بناء على الأمارة من إخراج الصواع من رحله.
السؤال الثالث: هل علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت، أو لم يعلم ذلك بل كان يعتقد أن ذلك اللبث بسبب الموت.
الجواب: الأظهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت، وذلك لأن الغرض الأصلي في إماتته ثم إحيائه بعد مائة عام أن يشاهد الإحياء بعد الإماتة وذلك لا يحصل إلا إذا عرف أن ذلك اللبث كان بسبب الموت، وهو أيضًا قد شاهد إما في نفسه، أو في حماره أحوالًا دالة على أن ذلك اللبث كان بسبب الموت. اهـ.